فصل: ذكر ما جرى للملك العادل في البلاد التي هي قاطع الفرات:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: النوادر السلطانية والمحاسن اليوسفية (نسخة منقحة)



.ذكر تتمة خبر الملك المنصور وما جرى له:

وذلك أنه لما بلغه مؤاخذة السلطان أنفذ إلى الملك العادل رسولا يشفع به ليطيب قلب السلطان ويقترح عليه أحد قسمين إما حرّان والرها وسميساط، وإما حماة ومنبج وسلمية والمعرة مع كفالة أخوته، فراجع الملك العادل السلطان مراراً فلم يجبه إلى شيء من ذلك، فكثرت الشفاعة إليه من جميع الأمراء، وهزت شجر رأفة منه، فرجع خلقه النبوي وحلف له على حران والرها وسميساط على أنه إذا عبر الفرات أعطي المواضع أفرجها وتكفل أخوته ويتخلى عن تلك المواضع التي في يده ودخلت تحت ضمان الملك العادل، ثم التمس الملك العادل خط السلطان ثانياً ولج عليه فمزق نسخة اليمين في التاسع والعشرين من ربيع الآخر، وانفصل الحال وانقطع الحديث، وكنت المتردد بينهما في ذلكن وأخذ الغيظ السلطان كيف يخاطب بمثل ذلك من جانب أولاد أولاده.

.ذكر قدوم رسول ملك الروم:

ولما كان مستهل جمادى الأولى وصل رسول من قسطنطينية الكبرى والتقى بالاحترام والإكرام ومثل بالخدمة السلطانية في ثالث الشهر، وكانت رسالته تشتمل على مطالب، منها صليب الصلبوت، ومنها أن تكون القمامة بيد قسوس من جانبه وكذا سائر كنائس القدس، ومنها أن يكون الاتفاق معه على أن يكون عدوّ من عاداه وصديق من صادقه، وأن يوافق على قصد جزيرة قبرص، فأقام عنده يومين، ثم سيّر معه رسولً يقال له ابن البزاز من الديار المصرية، وأجيب بالمنع عن جميع مقترحاته، وقيل إن الصليب قد بذل فيه ملك الكرج مائتي ألف دينار فلم يجب إلى ذلك.

.ذكر ما جرى للملك العادل في البلاد التي هي قاطع الفرات:

وذلك أنه لما سار الملك الأفضل رقق الملك العادل قلب السلطان على ابن تقي الدين، وقد كثر الحديث في معناه، وأنفذني السلطان لمشاورة الأمراء في خدمة الملك العادل في أمره، فجمعهم في خدمته، فذكرت لهم ما راسلني فيه إليهم، فانتدب الأمير حسام الدين أبو الهيجاء للجواب، وقال نحن عبيده ومماليكه وذلك صبي وربما حمله خوفه أن انضاف إلى جانب آخر ونحن لا نقدر على الجمع بين قتال المسلمين والكفار، فإن أراد أننا نقاتل المسلمين صالحنا الكفار وسرنا إلى ذلك الجانب وقاتلنا بين يديه، وإن أراد منا ملازمة الغزاة صالح المسلمين وسامحهم. وهذا كان جواب الجميع، فرق السلطان وجدد نسخة يمين لابن تقي الدين وحلف له بها وأعطاه خطه بما استقر من القاعدة. ثم إن الملك العادل التمس من السلطان البلاد التي كانت بيد ابن تقي الدين بعد استقلاله، وجرت مراجعات كثيرة في العوض عنها، وكنت الرسول بينهما، وكان آخر ما استقر أنه يسلم تلك البلاد وينزل عن كل ما هو شامي الفرات ما عدا الكرك والشوبك والصلت والبلقاء، وحاصه بمصر بعد النزول عن الجيزة وعليه في كل سنة ستة آلاف غرارة غلة تحمل للسلطان من الصلت والبلقاء إلى المقدس والمغل في السنة المذكورة في مواضعه له ومغل قاطع الفرات في هذه السنة للسلطان أيضاً، وأخذ خط السلطان بذلك، وسار بنفسه يصلح أمر ابن تقي الدين ويطيب قلبه، وكان مسيره في ثامن جمادى الأولى.

.ذكر استيلاء الفرنج على الدارون:

وكان الإفرنج خذلهم الله تعالى لما رأوا أن السلطان قد أعطى العساكر دستوراً وتفرقت العساكر عنه نزلوا على الدارون طمعاً فيه وكان بيد علم الدين قيصر وفيه نوابه. ولما كان يوم تاسع جمادى الأولى اشتد زحف العدو على المكان راجلاً وفارساً، وكان الأنكتار قد استنفذ من نوبة عكا نقابين جبليين فتمكنوا من نقب المكان وأحرقوا النقب وطلب أهل الحصن مهلة بحيث يشاورون السلطان فلم يمهلوهم، واشتدوا في القتال عليه فأخذوه عنوة، واستشهد فيه من قدر الله له ذلك، وأسر من قدر له ذلك، وكان ذلك قدراً مقدّراً.

.ذكر قصدهم لمجدل يابا:

ولما استولى الإفرنج على الدارون ساروا بعد أن قرروا أمره ووضعوا فيه من اختاروا حتى نزلوا على منزلة يقال لها الحسي، وهي قريب من جبل الخليل عليه السلام، وذلك رابع عشر جمادى الأولى، فأقاموا عليه ثم تأهبوا بقصد حصن يقال له مجدل يابا، فأتوه جريدة وخلفوا خيامهم في منزلتهم، وكان بها عسكر إسلامي فلقيهم وجرى بينهم قتال عظيم، وقتل من العدو كند مذكور واستشهد من المسلمين فارس واحد كان سبب قتله أنه وقع رمحه فنزل ليأخذه فمنعه فرسه الركوب فبادروه وقتلوه وعادوا إلى خيامهم بقية اليوم خائبين ولله الحمد.

.ذكر وقعة جرت في صور:

ولما كان سادس عشر جمادى وصل كتاب من حسام الدين بشارة يذكر أنه تخلف في صور مائة راكب وانضم إليهم من عكا خمسون وطمعوا فخرجوا لشن الغارات على البلاد الإسلامية، فوقع عليهم العسكر المرصد لحفظ البلاد من ذلك الطرف، وجرى بينهم قتال شديد، وقتل من العدو خمسة عشر نفراً ولم يقتل من المسلمين أحد، وعادوا خائبين ولله الحمد.

.ذكر قدوم العساكر الإسلامية للجهاد:

ولما رأى السلطان ما جرى من العدو من التنبط سير إلى العساكر من سائر الأطراف أن يسابقوا إلى الحضور، وكان أول قادم بدر الدين دلدرم مع خلق كثير من التركمان، فلقيه السلطان واحترمه، ووصل بعده عز الدين بن المقدم في سابع عشر جمادى الأولى بعسكر حسن وآلات جميلة ففرح بها السلطان.
وأما العدو فإنه رحل من الحسي ونزل على مفرق طرق منها طريق عسقلان وطريق إلى بيت جبرين وإلى غير ذلك من الحصون الإسلامية، ولما بلغ السلطان ذلك أمر العساكر أن سارت نحوه، فخرج أبو الهيجاء السمين وبدر الدين دلدرم وابن المقدم، وتتابعت العسكر وتخلف هو في القدس لنوع التياث كان عرض له، فلما أحس العدو المخذول بظهور العساكر الإسلامية عاد خائباً خاسراً ناكصاً على عقبيه، ووصلت الكتب من الأمراء مخبرين برحيل العدو إلى عسقلان.

.ذكر تعبية العدو لقصد القدس الشريف:

ولما كان يوم السبت الثالث والعشرين من جمادى الأولى وصل قاصد من العسكر يخبر أن العدو قد خرج في راجله وفارسه وسواد عظيم وخيم على تل الصافية، فسير السلطان إلى العساكر الإسلامية ينذرها ويحذرها، واستدعى الأمراء جريدة إليه ليعقدوا رأياً فيما يقع العمل بمقتضاه، فوصل، ورحل العدو من تل الصافية إلى جانب النطرون فنزل شماليه، وذلك في السادس عشر من جمادى الأولى، وكانت قد سارت من عرب الإسلام جماعة للغزاة على يافا فوصلوا بليل من غير علم بحركة العدو، فنزلوا في بعض الطريق يقسمون، فوقعت عليهم عساكر العدو فأخذوهم وهرب منهم ستة نفر فوصلوا إلى السلطان وأخبروه الخبر، ووصلت الجواسيس وتواترت الأخبار من جانب العدو أنه مقيم بالنطرون لنقل الأزواد والآلات التي تدعو الحاجة إليها في الحرب فإذا حصل عندهم ما يحتاجون إليه قصدوا القدس الشريف حرسه الله تعالى. وفي يوم الأربعاء وصل منهم رسول صحبته غلام كان للمشطوب عندهم يحدث في معنى قراقوش ويتحدث في معنى الصلح.

.ذكر نزولهم في بيت نوبة وهو موضع وطأة بين جبال يبنا بينه وبين القدس مرحلة:

رحل العدو من النطرون يوم الأربعاء السابع والعشرين من جمادى الأولى ونزلوا بيت نوبة. ولما عرف السلطان ذلك استحضر الأمراء وضرب المشورة فيما يفعل، فكانت خلاصة الرأي أن يقسم الأسوار على الأمراء ويخرج ببقية العسكر جريدة إلى جهة العدو فإذا عرف كل قوم موضعهم من السور استعدوا، فإن دعت الحاجة إليهم خرجوا، وإن دعت الحاجة إلى ملازمة مواضعهم لازموها، فكتبت الرقاع وسيرت الأمراء. وكانت طريق يافا سابلة لمن ينقل الميرة إلى العدو، فأمر السلطان من في اليزك أن يعمل معهم ما يمكنه، وكان في اليزك بدر الدين دلدرم، فكمن حول الطريق جماعة جيدة فمرّ بهم جمع من خيالة العدو ويحمون قافلة تحمل ميرة، فاستضعفوهم، فحملوا عليهم، وجرى قتال عظيم كانت الدائرة فيه على العدو، وقتل منهم ثلاثون نفراً وأسر جماعة ووصل الأسارى في التاسع والعشرين من جمادى الأولى إلى القدس، وكان لدخولهم وقع عظيم، وجرى على العدو من ذلك وهن كبير، وقويت قلوب اليزكية، وانبعثت همومهم حتى حملوا على العسكر ونزلوا إلى أطراف الخيم ولله الحمد. ولما علم المسلمون أن القوافل لا تنقطع خرج جماعة وأخذوا معهم عرباً كثيراً، وكمنوا كميناً واجتازت القافلة ومعها جماعة كثيرة فخرجت العرب على القافلة وتبعتهم الخيالة فدحروا بين أيديهم منهزمين نحو المسلمين، فخرجت الأتراك عليهم، فأخذوا وقتلوا، وجرح من الأتراك جماعة، وذلك في ثالث جمادى الآخرة.

.ذكر أخذ قافلة مصر حرسها الله تعالى:

وذلك أنه كان قد تقدم إلى عسكر مصر بالمسير وأوصاهم بالاحتراز والاحتياط عند مقاربة العدو فأقاموا ببلبيس أيّاماً حتى اجتمعت القوافل إليهم، واتصل خبرهم بالعدو، ثم ساروا طالبين البلاد والعدو يترقب أخبارهم ويتوصل إليها بالعرب المفسدين. ولما تحقق العدو خبر القوافل أمر عسكره بالاحتياط والتحفظ، وسار حتى أتى تل الصافية، فبات ثم سار حتى أتى الصافية، ثم علق على خيله فئة وسار حتى أتى ماء يقابل حسي، واتصل خبر نهضة العدو بالسلطان، فأنفذ بنذير للقافلة، وكان المندوب لذلك الأمير أخر أسلم والطنبا العادلي وجماعة من الفرسان المذكورين، وأمرهم أن يبعدوا بالقافلة في البرية ويتباعدوا عن العدو ما أمكن، فاتفق أن العسكر وصل الحسي قبل وصول العدو عليه، فلم يقيموا عليه وساروا حتى وصلوا القفل والعسكر المصري فأتوا بالقفل على ذلك الطريق ثقة منهم بأنهم لم يجدوا فيه ذاعراً ولا أحسوا فيه بمخوف فرغبوا في قرب الطريق وسلكوا بالناس هذا الطريق حتى وصلوا إلى ماء الخويلفة، وتفرق الناس لأجل الماء، فأخبر العرب العدو بذلك وهو نازل برأس الحسي، فقام من وقته وسرى حتى أتاهم قبيل الصبح، وكان مقدم العسكر فلك الدين أخو الملك العادل لأمه، فأشار أسلم بالمسير ليلاً للطريق واستظهارا بالصعود إلى الجبل، فخاف فلك الدين أنه إن رحل بالليل جرى أمر على القافلة لتبددها فنادى في الناس أن لا يرحلوا إلى الصباح.
وأما الأنكتار فبلغنا أنه لما بلغه الخبر لم يصدقه وركب مع العرب بجمع يسير، وسار حتى أتى القفل فطاف حوله في صورة عربي ورآهم ساكنين قد غشيهم النعاس فعاد واستركب عسكره، وكانت الكبسة قريب الصباح فبغت الناس ووقع عليهم بخيله ورجله، وكان الشجاع هو الذي ركب فرسه ونجا بنفسه، وانهزم الناس إلى جهة القفل والعدو يتلوهم، فلما رأوا القفل أعرضوا عن قتال العسكر وطلبوا القفل فانقسم القفل ثلاثة أقسام قسم قصدوا الكرك مع جماعة من العرب وعسكر الملك العادل وقسم أوغلوا في البرية مع جماعة من العرب أيضاً. وقسم استولى عليهم العدو فساقهم بجمالهم وأحمالهم وجميع ما كان معهم، وكانت وقعة شنعاء لم يصب الإسلام بمثلها من مدة مديدة. وكان في العسكر المصري جماعة من المذكورين كحسين الجراحي وفلك الدين وبني الجاولي وغيرهم من المذكورين. وقتل من العدو زهاء مائتي فارس على رواية، وعشرة انفس على رواية. ولم يقتل من المسلمين معروف سوى الحاجب يوسف وابن الجاولي الصغير فإنهما استشهدا إلى رحمة الله تعالى، وتبدد الناس في البرية ورموا أموالهم، وكان السعيد منهم من نجا بنفسه، وجمع العدو ما أمكنهم جمعه من الخيل والبغال والجمال والأقمشة وسائر أنواع الأموال، وكلف الجمالين خدمة الجمال والخربندية خدمة البغال والساسة خدمة الخيل وسار في جحفل من الغنية يطلب عسكره، فنزل على الخويلفة فاستقى منها، ثم سار حتى أتى الحسي. ولقد حكى لي من كان أسيراً معهم في تلك الليلة وقع فيهم الصوت أن عسكر السلطان قد قصدهم فتركوا الغنيمة وانهزموا وبعدوا عنها زمانا ولما انكشف لهم أن العسكر لم يلحقهم عادوا إلى الرحل وهرب في تلك الغيبة جمع من أسارى المسلمين وكان الحاكي منهم فسألته بكم حزرتم الجمال والخيل؟ فاخبر أن الجمال تناهز ثلاثة آلاف والأسارى خمسمائة وتقرب من ذلك عدة الخيل.
وكانت هذه الوقعة صبيحة الثلاثاء حادي عشر جمادى الآخرة، ووصل الخبر إلى السلطان في عشية ذلك اليوم بعد العشاء الآخرة، وكنت جالساً في خدمتهن وأوصل الخبر شاب من الإصطبلية، فما مرّ بالسلطان خبر أنكى منه في قلبه ولا أكثر تشويشاً لباطنه، وأخذت في تسكينه وتسليته وهو لا يكاد يقبل التسلية.
وكان أصل هذه القضية أن الأمير أسلم أشار عليهم أن يصعدوا الجبل فلم يفعلوا، فصعد هو وأصحابه، فلما وقعت الكبسة كان هو على الجبل فلم يصل إليه أحد من العدو ولم يشعروا به. ولما انهزم المسلمون تبعتهم خيالة الإفرنج وأقام الرجالة منهم يستولون على ما تخلّف من المسلمين من الأقمشة، ولما تحقق الأمير أسلم أن الخيالة قد بعدت عن الرجالة نزل إليهم بمن معه من الخيالة وكبسهم من حيث لم يشعروا وقتلوا منهم جماعة وغنموا منهم دواب من جملتها بغلة كانت تحت هذا القاصد. ثم سار العدو يطلب خيامه فكان وصوله إلى المخيم يوم الجمعة سادس عشر جمادى الآخرة، وكان يوماً عظيماً عندهم أظهروا فيه من السرور وأسبابه ما لا يمكن وصفه، وأعادوا خيمهم إلى الوطأة على بيت نوبة، وصح عزمهم على القدس، وقويت نفوسهم بما حصلوا عليه من الأموال والجمال التي كانت تحمل الميرة والزاد الواصلة من مصر مع عسكرها ورتبوا جماعة على لد يحفظون الطريق على من ينقلون الميرة، وأنفذوا الكند هري إلى صور وطرابلس وعكا يستحضر من فيها من المقاتلة ليصعدوا إلى القدس، ولما عرف السلطان ذلك منهم عاد إلى الأسوار فقسمها على الأمراء وتقدم إليهم بتهيئة أسباب الحصار، واخذ في إفساد المياه بظاهر القدس وتخريب الصهاريج والجباب بحيث لم يبق حول القدس ماء يشرب أصلا، وأطنب في ذلك إطناباً عظيماً، وأرض القدس لا يطمع في حفر بئر بها فيها ماء معين لأنها جبل عظيم وحجر صلب، وسيّر إلى العساكر يطلبها من النواحي والبلاد.